Thursday, November 01, 2012

الله: رؤية بعين العقل-3

اله المؤمن كائن غامض. المؤمنون به أنفسهم يختلفون في تحديد صفاته و قدراته بل و يكفّـرون بعضهم بعضاً على أساس اختلافاتهم هذه

ما يتـّفقون عليه هو الأقرار بعجزهم عن معرفة طبيعة معبودهم. فهم يؤمنون "بفكرة" فقط. فكرة يجهلون كنهها و جوهرها ويتغافلون عن تناقضاتها العديدة ولا يتورّعون عن اسباغ صفات متنوّعة على فكرة الاله علـّهم يفلحون في حلّ مشكلة وجود ما لا يمكن وجوده منطقياً مثلما أسلفتُ في الجزئين الأولين من هذا المقال

المؤمن يطلب الهاً لا تحدّه حدود ، و في نفس الوقت يريد أن يسبغ عليه صفات و أوصاف تقرّبه من العقل. أي أنه يطلب صفات و في نفس الوقت يريد تجنـّب تبعات التحديد الذي يأتي معها بالضرورة. و لتحقيق هذا الهدف اخترع أكثر الصفـّات شيوعاً و تناقضاً و غرابة في نفس الوقت: الصفات المطلقة

يختار المؤمن صفة ما ثم ينفيها عن الهه و يضرب عصفورين بحجر ، يقرّب لنا فكرة الاله (حسبما يزعم) و لا يُلزم نفسه بتحديد يخلّ بألوهيته

أي أن المؤمن يشرح طبيعة الاله بالحديث عمـّا هو ليس من صفاته بدل أن يخبرنا صفاته و هو يستند الى قاعدة بسيطة  تقول: " لا يمكننا معرفة ماهيّة الله لكن يمكننا معرفة ما ليست عليه ماهيّة الله". صفات مثل " لا حدود لمعرفته=لا حدود لحكمته=العليم" و "لا حدود لوجوده= الوجود المطلق= الوجود الكلّي=الوجود في كل مكان و أوان" و "لا حدود لقدرته=القدرة المطلقة=الجبار" ، " لا نهاية له=دائم=خالد" و غيرها... صفات من شأنها أن تصبغ الاله بطبيعة ما و تقرّبه من الادراك(!) بدون أن تحدّه و تقيّده

هل تنجح الصفات المطلقة التي أخترعها المؤمن و ألبسها لألهه العجيب  في انتشاله من مستنقع التناقض الذي يغوص فيه ؟

واقع الأمر يختلف تماماً ، هذه اللعبة المكشوفة تفشل تماماً و هاكم أسباب فشلها

أولاً: الصفات المطلقة أو اللامحدودة مصطلح يناقض نفسه مثل "الميـّت الحيّ".حين نتحدّث عن صفة شيء ما فنحن نشير الى ميزة أو سمة معيّنة و محدّدة (لون ، رائحة ، طعم ، أبعاد ، الخ ،...) و الصفات المطلقة لعبٌ على الكلام يخـّل بمعنى الصفة نفسها. الصفة (أي صفة كانت) تحدّد سمة الشيء و اختراع صفة "غير محدودة" يفرغها من معناها أساساً


سفسطة الصفات المطلقة تتناقض مع الأسس التي يقوم عليها ادراك الانسان للوجود. ادراكنا لوجود الشيء يعني أن ندرك وجود شيء محدّد بصفات و سمات معيّنة و المؤمن يرفض تحديد الهه بصفات أو سمات لأنه يدرك أن التحديد يبني حدوداً و الحدود تقتل الألوهية


 نحن ندرك وجوداً مادّياً و اله المؤمن ليس بمادّة. نحن ندرك عالم متغيّر فيزيائياً و كيميائياً و احيائياً بمرور الزمن و اله المؤمن ثابت لا يتغيّر. كيف ندرك و نفهم وجود بدون حدود و مسألة التحديد متضمنّة في فكرة الوجود نفسها ؟! كيف ندرك وجود ليس بمّادة (أو طاقة: صورة المادة الأخرى) إن كان الوجود المادي (و الطاقي) هو الوحيد الذي يمكن ادراكه ؟

ثانياً: اسلوب النفي في وصف الله يجعل منه عدماً لأن العدم في جوهره نفي لجميع صفات الوجود. المؤمن يقول ان الله ليس مادّة ، و أنا اقول و العدم كذلك ، المؤمن يقول أن الله صمد ثابتُ خالد لا يتغيّر و أنا أقول و العدم كذلك ، المؤمن يقول الله خفيّ عن الأنظار و أنا اقول و العدم كذلك ، المؤمن يقول الله لا تحدّه حدود و أنا أقول و العدم كذلك ، المؤمن يقول وجود الله وجود مطلق و أنا أقول و العدم كذلك ، و هكذا يمكننا المرور على جميع الصفات المطلقة التي يتذاكى علينا المؤمن بها و ننسبها الى العدم.. فما هو الفرق بين الهه و العدم ؟. ما هو الفرق بين الله و بين اللاوجود ؟ اما أن يكون الله هو العدم أو أن يمتلك صفة تميّزه عنه ، صفة "تحدّد هويته" بشكل واضح لا لبس فيه و هذه الصفة لا يمكن العثور عليها في قائمة الصفات المطلقة


ثالثاً: بدون معرفة مسبقة لطبيعة الله لا يمكن الجزم بما هو ليس عليه. أدّعاء المؤمن معرفة أن وجود الله "لا يحدّه حد" أو  أن "ليس لمعرفته حدّاً" يعني ضمنيّاً انه يمتلك فكرة مسبقة عن طبيعة الله تجعله يعرف ما هو ليس عليه

حين أصف طعم تفاحة بالقول انه "ليس حامضاً" فهذا يعني أمتلاكي معرفة مسبقة عن طعم التفاحة لأعلم ما هو ليس عليه و بالتالي أقرّ أن طعمها "ليس حامضاً".  و كذلك حين يقول المؤمن أن الله "ليس مادة" أو أن الله "ليس لقدرته حد" فهو يقول ضمنياً انه يعرف شيئاً عن الله يؤهله لأسباغ هذه "الصفات" عليه.   بعبارة أخرى ، حتى الصفات المطلقة أو الصفات النافية لا يمكن أن يكون لها معنى بدون معرفة مسبقة بطبيعة الله أولاً لكي نستطيع أن نعرف ما هو ليس من طبيعته 

و نعود إذاً الى المربّع الأول: المؤمن عاجز عن شرح فكرة الاله المزعوم لأن الصفات المطلقة التي يريد بها إنقاذ فكرة الاله تفترض معرفة مسبقة بفكرة الاله أولاً !  تناقض و دوران في دوائر

حين يواجه المؤمن حتمية افلاس بدعة "الصفات المطلقة" تجده يعود ليتراجع و يختبئ خلف جدار "عجز الانسان عن معرفة الله" و لسان حاله يقول "كمنّ فسّر بعد جهد الماء بالماء". عاد الى المربّـع الأول ، عاد للحديث عن ادراك ما لا يمكن ادراكه و فهم ما لا يمكن فهمه و شرح ما لا يمكن شرحه ، عاد الى التناقض المذكور في المقالين السابقين. فما عساه يفعل الآن و كيف ينقذ فكرة الاله من كل هذه التناقضات ؟

و للحديث بقية

No comments: